الاعلام والديمقراطية

الديمقراطية هي ممارسة الحكم عبر المعارضة في الرأي، ومن ابرز ما يميزها انها تتقبل كل التوترات التي تنشأ في اي مجتمع وتحاول التوفيق بينها بشكل عقلاني. وتتيح وسائل الاعلام الجماهيرية الفرصة امام عدد كبير من المواطنين لمواجهة النزاعات السياسية والاجتماعية والتعامل معها. كما تلقي على المسائل المتنازع حولها ضوءً يتوجب على الاطراف المتنازعة، من اطراف اجتماعية وحكومية ومعارضة، ان تثبت كفاءتها وحكمتها في معالجة هذه المسائل. ويمكن لوسائل الاعلام من صحافة واذاعة مرئية ومسموعة، من خلال المعلومات التي تقدمها ان تنبه المواطن الى الازمات ووعي تفاصيلها، أوان تكون منبرا للاطراف اوالاحزاب السياسية اوان تأخذ موقفا مستقلا من اي قضية اونزاع.

وينجم عن عدم وجود وسائل الاعلام الجماهيرية خطر ان يبقى الخلاف في الآراء والمصالح، الذي يناقشه المجتمع الديمقراطي علنا ويبت فيه ، مستترا بعيدا عن النقاش وبالتالي دون تسوية.

في لبنان، على سبيل المثال ، يقوم نظام حكم نيابي ديمقراطي يفترض فيه ان تكون الحكومة والمجلس النيابي مركز اتخاذ القرارات حيث تتواجه مصالح الاطراف وتصوراتهم حول مختلف القضايا. ولا يمكن لهذا النظام ان يستمر ويعمل على المدى البعيد الا اذا امتنع اي من الفرقاء، الحكومة والمجلس النيابي اوالاحزاب وجماعات المصالح – لوبي -، في هاتين المؤسستين من السيطرة الكاملة على فريق اخر.

لكن الشرط الاساسي كي يكون هذا النظام فاعلا هو تأمين حرية وسائل الاعلام. وهنا لابد من القول ان وسائل الاعلام، على العكس من المجالس النيابية، لا تمتلك سلطة ردع تمكنها من فرض احترام رأيها حين تنتقد، وانتقادها لأمر ما لايجد صداه في المجال السياسي الا عبر اشخاص او مؤسسات اخرى.

قد يكشف الاعلام مخالفة قانونية او دستورية لكن ذلك سيبقى دون اي تأثير الا اذا لجأ القضاء الى النظر في الاتهامات، ولذا فان من الشروط الاساسية لنجاح الديمقراطية استقلالية القضاء، كما ان مقدرة الاعلام على القيام بدوره رهن بوجود مجلس نيابي فاعل . ولا يحقق النقد الذي يوجهه الاعلام نجاحا مؤثرا الا اذا اخذ بعض النواب هذا النقد منطلقا لعمل سياسي .

يكتسب النقد والرقابة من جانب وسائل الاعلام اهمية كبرى عندما لا تقوم الدوائر المفترض وجودها في النظام النيابي، كالمعارضة أواللجان النيابية وهيئات الرقابة، بمهمة الرقابة على الحكومة بشكل فعال.

ولولا تقارير وسائل الاعلام المختلفة التي تكشف المخالفات وتدفع الى تشكيل لجان التحقيق النيابية لوقعت الديمقراطية ضحية الفساد واستبداد البيروقراطية. والهدف من ضمان حرية الرأي والاعلام ليس ضمان المصالح الاقتصادية بل حماية حرية تكوين الرأي العام والنشاط الفكري في المجتمع.

كما ان ضمان حرية الاعلام يتطلب استقلال المؤسسات الاعلامية عن ضغوط المجموعات الاقتصادية القوية التي تستخدم وسائل غير متوازنة للتأثير على ما تنشره وسائل الاعلام وعلى مدى انتشارها. وهذا الإستقلال شبه مستحيل لأن عائدات بيع الصحف والاشتراكات لا تغطي اكثر من ثلاثين في المائة من تكاليف اي صحيفة في اي مكان في العالم، وهذا ما يجعل المطبوعات، من جرائد ومجلات، تعتمد على الاعلانات التي تتحكم بها الدوائر الاقتصادية .

ويعود اهتمام الدوائر الاقتصادية والسياسية بالاعلام الى دوره الهام في تشكيل الرأي العام. واهمية هذا الدور تأتي من الاعتقاد بان الديمقراطية تؤمّن مصلحة الجميع من خلال مناقشة قضايا المصلحة العامة بحرية وصراحة، وهذا ما يغذي الامل والاعتقاد بان صراع الآراء يمهد الطريق امام نجاح الرأي السديد. لكن امكانية المشاركة العملية الواسعة في تكوين الرأي العام متباينة بين مختلف الاطراف.

فالاحزاب السياسية والمجموعات الاخرى داخل المجلس النيابي تتمتع بفرص افضل للأستئثار باهتمام وسائل الأعلام مما يتوفر امام الاقليات السياسية والدينية. فوسائل الاعلام تبرز مواقف الكبار وتتناسى مواقف الفئات الضعيفة ومصالحها . وهذا الخلل في التوازن قد يؤدي الى جمود موازين القوى القائمة والى عدم تحقيق اي تغيير ضروري وعدم وصول اي افكار جديدة اومغايرة الى العلن .

غير ان التقدم المتسارع الذي احرزته وسائل الاعلام الالكترونية في السنوات الاخيرة جعل الانظمة الحاكمة عاجزة عن مواجهة الحركات الشعبية القوية في اوساط الشباب التي يتمتع افرادها بالمقدرة الكاملة او المحدودة على استخدام صفحات التواصل الالكترونية لنشر الافكار في زمن فقدت فيه مؤسسات الاعلام الاخرى، كالصحافة المكتوبة والمتلفزة، الكثير من مصداقيتها بعد ان لجأت، تحت ستار كشف الفساد والاخطاء، الى الانضمام الى هذا الفريق او ذاك واصبحت مطية للدوائر الاقتصادية والسياسية، خاصة بعد ان ساهمت برامج التلفزة الانتقادية- السياسية ( بس مات وطن – دمى قراطية ..على سبيل المثال) في ضياع الثقة بين المواطن والسياسي ليصبح المسؤول السياسي مجرد دمية تثير السخرية والرثاء.

ومن الملاحظ ان ارتفاع سعر المطبوعات بالنسبة الى معدل الدخل في العالم العربي بالاضافة الى سيطرة الاعلام المرئي وتدني الثقة باستقلالية الصحف افقد الصحافة المكتوبة قسما لايستهان به من القراء الذين وجدوا ضالتهم في المواقع الالكترونية السريعة ، رغم الكثير من السلبيات التي يتصف بها الكثير من هذه المواقع .

—  جمال مصري