أخلاقيات الصحافة في مواجهة المعلومات المضللة

في ظل الصراعات المستمرة التي تشهدها منطقتنا، أصبح الصحافي اللبناني يعمل في بيئة تشبه حقل ألغام معلوماتي. كل خبر يتطلب تدقيقاً مضاعفاً، وكل صورة من الممكن جداً أن تكون مفبركة، وكل فيديو يحتاج إلى تحقق دقيق من مصدره.

خلال تغطية الأحداث الأخيرة في المنطقة، واجهنا موجات متلاحقة من المعلومات المضللة. على سبيل المثال، الحرب الإسرائيلية على غزة الفلسطينية ولبنان من 2023 وحتى اليوم. انتشرت صور مولدة بالذكاء الاصطناعي تُظهر أطفالاً مبللين داخل خيم مليئة بالوحل وسط الشتاء البارد، هذه الصور التي استخدمت في البداية لاستعطاف الناس حول أزمة النازحين من الحروب، وتحولّت لاحقاً إلى أداة إسرائيلية لمهاجمة كل المواد الصحيحة الأخرى المتعلقة بتلك الحرب، أو مثلاً واحدة من أكثر عمليات الاحتيال المنتشرة، لاسيما مع تغطية إعلام لها، تتعلق بفتح باب التصويت على الانترنت، لأي شخص كان، للضغط على شركة غوغل لنزع اعتراف منها بحدود دولة فلسطين كاملة من خلال حدمة خرائط غوغل.

مثال آخر أكثر حساسية حدث في نيسان 2024 بعد مقتل المسؤول في حزب القوات اللبنانية باسكال سليمان. فور إعلان الجيش اللبناني أن سوريين متورطون في الحادثة، اجتاحت منصات التواصل موجة من المعلومات المضللة والخطاب التحريضي ضد اللاجئين السوريين. وانتشرت معها مقاطع فيديو قديمة لأحداث سابقة على أنها هجمات حالية، وتضخمت الروايات من دون تحقق، وطبعاً استفادت منها بعض الأحزاب داخلياً، وتبين لاحقاً أن الفاعلين هم عصابة من لبنانيين وسوريين، ولا خلفيات سياسية لها. 

سبل اكتشاف التضليل والتحقق من صحة الخبر

بعض المؤسسات الإعلامية – في لبنان – عمدت، وما زالت تعمد، إلى تطوير مهارات العاملين فيها، واضعةً منهجيات متقدّمة للتحقق من المعلومات، تُطبَّق على التقارير الموسَّعة كما على الأخبار السريعة والموجزة. في المقابل، بادرت مؤسسات أخرى إلى إنشاء نوافذ خاصة بتدقيق المعلومات.

فعلى سبيل المثال، لي كل الشرف أن إذاعة “صوت كل لبنان”، بالتعاون مع الإعلامي زافين قيوميجيان، طلبت مني منذ صيف 2020، في عز جائحة كورونا، تقديم فقرة يومية تُعنى بتدقيق أبرز الشائعات والمعلومات المتداولة في لبنان، فكنا أول برنامج من هذا النوع – ربما – في العالم. 

ويُسجَّل أيضاً لصحيفة النهار تخصيصها قسماً ثابتاً لتدقيق المعلومات، تشرف عليه الزميلة الصحافية هالة حمصي. كما لا يمكن إغفال الدور البارز الذي تؤديه الوكالة الوطنية للإعلام عبر قسمها المتخصص بعنوان “FactCheck Lebanon”، ومع التقدير الكبير لهذا الجهد، نتطلع لأن يكون هذا القسم أكثر نشاطاً وانتظاماً في عمله، لمساهمته في تحصين المشهد الإعلامي الرسمي في لبنان.

الأدوات التي نعتمدها يومياً للكشف عن التزييف

بالدرجة الأولى التدرب المستمر، معرفة آخر تطورات مجال انتشار الأخبار والمعلومات والمالتيدميديا، كما الذكاء الاصطناعي، أي استخدام المخزون الشخصي في رصد وتفنيد الأخبار، تمرين أنفسنا.

وطبعاً أدوات البحث العكسي عن الصور والفيديوهات لتتبع أصل المحتوى المرئي، والتحقق من البيانات الوصفية المخفية في الملفات للكشف عن التاريخ الحقيقي والموقع الجغرافي.

مراجعة المصادر المتعددة: عدم الاكتفاء بمصدر واحد أبداً، بل التحقق من ثلاثة مصادر مستقلة على الأقل. مع نقطة مهمة ألا وهي التواصل المباشر مع الشهود، إذ أن التحقق الميداني يبقى الأساس، رغم كل الأدوات التقنية.

التحديات العملية في الوصول إلى الخبر الصحيح

نواجه في لبنان تحديات متعددة الطبقات تجعل الوصول إلى الحقيقة مهمة شاقة.

في عصر الإعلام الرقمي، الضغط لنشر الخبر أولاً يتصارع مع الحاجة للدقة. دراسات أظهرت أن 63% من الصحفيين يشعرون بضغط للنشر بسرعة، مما يزيد احتمال الأخطاء. لكن الدقة يجب أن تبقى الأولوية، حتى لو كان ذلك يعني التأخر دقائق عن المنافسين.

القيود الأمنية والوصول المحدود: خلال الحرب على لبنان، فرضت قيود على عمل الصحفيين، مما أجبرنا على الاعتماد على مصادر محلية أو منصات التواصل، لا يمكن التحقق منها بسهولة. في لبنان، استُهدف الصحفيون مباشرة، مما أدى إلى بداية استشهاد الصديق عصام العبدالله وما تلاه من استشهاد الزملاء فرح عمر وربيع معماري وغسان نجار ومحمد رضا ووسام قاسم وإصابة آخرين.

الحرب المعلوماتية والدعاية: كل طرف في أي صراع، يستخدم الإعلام كأداة حرب نفسية. في لبنان، ومنذ الحرب الأهلية في سوريا، انتشرت العديد من حملات تضليل المنظمة تهدف إلى تشويه اللاجئ الفقير الهارب من آلة الحرب. ومثال آخر تم رصده بالعامين السابقين، انتشار تحذيرات من ضربات عسكرية إسرائيلية في الداخل اللبناني، يتبين أنها دعوات مصممة أو مكالمة تم رصدها على سبيل المزاح بين الأصدقاء والأخصام، أو حملات دعائية لمؤسسات وجمعيات.

الأزمة الاقتصادية وضعف الموارد: لا يغيب عنكم النداء الأخير لنقيب المحررين الاستاذ جوزف القصيفي عن الوضع المعيشي الصعب الذي يطال الصحافيين خصوصاً كما كل اللبنانيين. من دون نسيان أن نسبة كبيرة من الصحافيين يعملون من دون تأمين صحي أو ضمانات وظيفية. كيف يمكن لصحافي أن يحقق في الأخبار وهو يكافح نفسياً وجسدياً لتأمين قوته اليومي؟ 

وعن الصحة النفسية: تشير الدراسات إلى أن الصحافيين الذين يغطون الحروب والنزاعات يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة. نحن نشهد جثثاً محترقة، أطفالاً قتلى، دماراً هائلاً، ثم نعود لنكتب بحيادية وكأن شيئاً لم يكن.

والنقطة الأخيرة، انتشار المحتوى المولد بالذكاء الاصطناعي: أصبح من الصعب تمييز الصور والفيديوهات الحقيقية من المزيفة. حالة حديثة / مستحدثة بسيطة في لبنان، رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان، كما السيد بهاء الحريري وبالإضافة إلى الفنان ملحم زين، وغيرهم، يحذرون من صفحات وفيديوهات لهم مولدة بالذكاء الاصطناعي. هذا يضع مسؤولية إضافية على الصحفي للتحقق التقني الدقيق.

إجراءات تصحيح الوقوع في فخ التضليل

الشفافية في التعامل مع الأخطاء هي جوهر الثقة بين الصحفي وجمهوره. وكما أن عملية التدقيق ما قبل النشر مهمة، فأيضاً التدقيق والمتابعة ما بعد النشر مهم أكثر.

السرعة والفورية: يجب نشر التصحيح بأسرع وقت ممكن فور اكتشاف الخطأ، بغض النظر عن متى نُشر الخبر الأصلي. التأخير في التصحيح يضاعف الضرر.

الوضوح والشفافية: التصحيح يجب أن يكون واضحاً وسهل الفهم. يجب أن يكون أي شخص قادراً على فهم كيف ولماذا تم تصحيح الخطأ”. بعض المؤسسات مثل “نيويورك تايمز” تُدرج المعلومة الخاطئة في التصحيح حتى يرى القراء حجم الخطأ، بينما تتجنب رويترز إعادة ذكر المعلومة الخاطئة إلا إذا كان ضرورياً.

التصحيح على جميع المنصات: إذا انتشر الخبر الخاطئ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يجب نشر التصحيح على نفس المنصات. الخطأ على تويتر يتطلب تصحيحاً على تويتر.

أذكر هنا حادثة وقعت مع، زميلتنا في الجلسة الاستاذة نضال أيوب، في 2019، عندما انتشر خبر مع صورتها الشخصية في وسائل الإعلام، مفاده أنها تتعرض لهجوم من حزب الله والتيار الوطني، ليتبين أن الخبر صحيح، ولكن مع صحافية أخرى .. الناشطة الحقوقية نضال أيوب.

الموقع البارز: التصحيح يجب أن يكون في مكان بارز، ليس مدفوناً في نهاية المقال أو في صفحة مخفية. 

عدم حذف الخطأ: المقال الأصلي لا يُحذف، بل يُحفظ مع إشارة واضحة للتصحيح. هذا يحافظ على سلامة السجل الصحفي.

التواصل المباشر مع المتضررين: في حالات الأخطاء الجسيمة التي تضر بأفراد أو مؤسسات، يجب التواصل المباشر معهم وتقديم اعتذار صادق.

التعلم من الخطأ: تحليل كيف حدث الخطأ لتجنبه مستقبلاً.

تحديات لبنان والمنطقة العربية في مكافحة التضليل

لا تزال بعض المؤسسات الإعلامية العربية تنظر للتصحيح كإقرار بالضعف، وليس كدليل على المصداقية. نحتاج لتغيير هذه الثقافة، وبعض المؤسسات الأخرى تفتخر بنشر التضليل المعلوماتي في سبيل تقوية النهج السياسي الذي تتبعه. 

تحدي ثان، حظيت الوكالة الوطنية للإعلام تدريبات من اليونسكو و AFP على منهجيات التدقيق، وعلى الرغم من أن أغلب المشاركين في تلك التدريبات أقرب إلى عمر التقاعد من الصحافيين الجدد، إلا أنها خطوة إيجابية، ولكن هذه النقطة تدفعنا للتساؤل حول العديد من المؤسسات الأصغر التي تفتقر لهذه الموارد.

تحد آخر يبرز في مشهد الإعلام اللبناني، يتمثل في غياب ثقافة التعاون أو التواصل مع المبادرات والأفراد المتخصصين في تدقيق المعلومات، خصوصاً في التقارير التي تتطلّب المراجعة الدقيقة. قد يُعزى ذلك جزئياً إلى محدودية الموارد المالية التي تعيق هذا الشكل من التعاون، لكن الأمر يتجاوز البعد المادي، إذ لا نلحظ توسعاً حقيقياً في شبكات التشبيك بين المؤسسات الإعلامية والمدققين المستقلين في لبنان.

فعلى سبيل المثال، ومنذ بداياتي في العمل الصحفي وتدقيق المعلومات مطلع الألفية، يمكنني أن أعدّ على أصابع اليد عدد المرات التي تواصلت فيها مؤسسات صحفية لبنانية – من جرائد، أو محطات تلفزيونية، أو إذاعات – لطلب تدقيق تقاريرها قبل النشر. وربما يزيد بقليل عدد الصحافيين الذين بادروا شخصياً للتعاون معي في هذا المجال. ومع ذلك، لا يمكن القول إن الباب مغلق تماماً، لكنه لا يزال موارباً يحتاج إلى مزيد من الانفتاح والتطوير.

بناء جسور الثقة بين غرف الأخبار والمدققين (مدققون مستقلون أم عاملون في غرف الأخبار) لم يعد خياراً بل ضرورة مهنية. فالإعلام، إذا أراد أن يستعيد مكانته كمرجع موثوق، عليه أن يُدرج عملية التحقق ضمن بنيته المؤسسية، لا كخطوة إضافية بل كجزء أصيل من دورة إنتاج الخبر.

أخلاقيات المهنة اليوم ليست ترفاً، بل ضرورة وجودية. كل خبر مضلل ننشره يُفقدنا ثقة جمهورنا، وكل تصحيح شفاف نقوم به يعيد بناء تلك الثقة.

نحن الصحفيون في لبنان نعمل في أصعب الظروف، حروب، أزمات اقتصادية، تظاهرات، قيود أمنية، استهداف مباشر، واغتراب. 

المعركة ضد المعلومات المضللة معركة يومية، تتطلب يقظة مستمرة، وأدوات متطورة، وشجاعة في الاعتراف بالخطأ. مصداقيتنا كصحافيين رأس مالنا الوحيد. وحمايتها تبدأ بكلمة واحدة: الحقيقة.


ألقى الصحافي والمدرب على تدقيق المعلومات، محمود غزيّل، هذه الكلمة أثناء ندوة حملت عنوان “العمل النقابي وأخلاقيات المهنة” تحدث فيها إلى جانب غزيّل، كل من واصف عواضة ونضال أيوب، بإدارة يمنى شكر غريّب. وكانت نقابة محرري االصحافة اللبنانية نظمت مؤتمرها بعنوان “الصحافة اللبنانيّة: الرؤيا والدور” بالتعاون مع”مركز لبنان التطوعي” في اتحاد الغرف العربية – مبنى عدنان القصّار، في بيروت – لبنان.